"ماذا أقولُ لجاري اليهوديّ"
*
ماذا أقول لجاري اليهوديّ،
يحدّثني بروسيّةٍ فجّةٍ
عن عربٍ أضاعوا اللّغةَ
والنّجومَ والأوطانْ
عن بيروتٍ تفتتتْ
عن دمشق تشتتتْ
عن زمنٍ يقتتلْ
بلا بصرٍ بلا شرفٍ بلا حصانْ
عن يمنٍ يمضغه قاطُ الغيبِ
عن قاهرةٍ تُقهَرُ
عن بغدادَ تشتعلْ
ماذا أقول لجاري اليهوديِّ يتبسّمُ
يستذكر بطولاتِه البيروتيّهْ
يحتسي الفودكا وينتشي مثل طاووسٍ
يتباهى بسمائهِ العنكبوتيّهْ
وطلعاتِ موتٍ فوق طرطوسٍ...
ماذا أقول لجاري اليهوديّ وأنا أصلح له جلستَهُ
ولغتَه العبريّهْ
لا حبًّا بأفكاره، ولكن
لمرضٍ ورثته من العربيّهْ
اسمه: عشقُ الأبجديّهْ
وعلّةٍ أرغمتني أن أعبُدَ بيروت
وإن غمرتها القمامهْ
وأسجد لدمشقَ
أقرأ آياتِها في غمامهْ
وألعقُ جراحَها
لا ياسمينَ فيها، ولا حكايهْ
لكنّها القلبُ حين يدمى
فهل يترك القلبُ جسدَهُ وعظامَهْ!
ماذا أقول لجاري اليهوديّ يحدّثني عن جابوتنسكي
عن صندوقه القوميِّ عن فيلقه
وعن الكتيبة 38 في جيش بلفورْ...!
(ماذا أقول!)
أسعلُ قليلًا
تتحرّك رئةُ المتوسِّط
من غزة إلى زحلهْ
ومن جبلهْ إلى تدمُرْ
وأسمع همسًا في صدري
لا أعرف بأية لغةٍ أسمع:
فينيقيٌّ يُعاتب آراميًّا
كلدانيٌّ يُفاصلُ كنعانيًّا
يبوسيٌّ يُعانق آشوريًّا
سومريٌّ يُشاكس رومانيًّا...
وبعبريّةٍ عرجاء يقاطع جاري الهمسَ صارخًا
انظر إلى إخوتك من حولك
شعوبٌ تذبحُ شعوبًا
أرض جوعٍ تصلّي
لإلهٍ من فُتاتْ...
أتساءلُ في سرّي:
ألَمْ يحن الوقت كي يتحقّق الحلمَ،
فيُعانق ذلك النيلُ ذاك الفُراتْ؟
...
ماذا أقول لجاري اليهوديِّ بعبريّتي التي لا يفهمها
وعربيّتي التي يجهلها؟
... لن أقول له شيئًا
سأتلذّذ بسرّي وحدي
فما شأنه بفاطمهْ،
أمي الدمشقيّةِ، ترسم بضوئها غدي!
ما شأنه بأنطوانيت، أمي الثانية في الأشرفيّهْ،
تُرضِعُني بما تبقى من ثدي!
ما شأنه بأختي زينب تغمس أساورها بتراب الضاحيهْ،
أو أحمد
يلملم جراحَ حنّا
تحت تينةٍ نائيهْ
لا، لن أقول شيئًا
سأنسلُّ من حلمٍ نصراويٍّ إلى بيت جدي
في بْشَرِّي
أمرّر أصابعي فوق رسوماته
أقرأ على "نبيِّه" السلامَ
أشعل قنديلًا، وأصلّي:
المجد للشام في الأعالي، وعلى الأرضِ السّلام، وفي الغد مسرّهْ
.
لن أقول لجاري اليهوديّ شيئًا
فالزيتونُ، لا يقتلُهُ إلا تِفْله
وكلّ جسدٍ، حين يشيخ، لهُ موعدٌ
فيهِ يُغادرْ
فلما نُتعبُ هذا الزّمانَ،
لما بأرواحِنا الغالية نغامرْ!
لا، لن أقولَ لجاري اليهوديِّ شيئًا،
له هذا الزمانُ
لهُ حلُمُه العابرْ
ولي الأرضُ
تحرثُ أحلامي
فيها الزمنُ يُسافرُ
يُسافرُ
يُسافرْ
.
الناصرة 23/25 آب 2022
وســـــــــــام جبران