أُويس القَرَني : فوائد من قصته وأقواله
د. أحمد عبد المجيد مكي
بسم الله الرحمن الرحيم
أُويس القَرَني: هو أبو عمرو أُوَيْس بن عامر القَرَني- بفتح القاف والراء - من أهل اليمن، أسلم زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن منعه من القدوم عليه بِرُّه بأمه، رأى عمر بن الخطاب ومن بعده، وكان مشهوراً بالزُّهد والعُزْلَة.
قال عنه الذهبي : هو القدوة، الزاهد، سيد التابعين في زمانه، كان من أولياء الله المتقين، ومن عباده المخلصين.
خصص له الإمام مسلم في صحيحه بابا في فضائله، وذكر تحته ثلاثة أحاديث، كلها مروية من طريق راو يقال له أُسَيْرِ بن جابر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الحديث الأول والثاني مختصران وبنفس معنى الحديث الثالث، الذي فيه قصة أويس بطولها، ونصه كما يلي:
عن أُسَيْرِ بن جابر، قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن، سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مُراد (قبيلة معروفة من قبائل اليمن) ثم من قَرَن (حَىّ أو بطن من مراد ) ؟ قال: نعم، قال: فكان بك بَرَص (بياض يقع في الجسد لعِلَّة) فبرأت منه إلا موضع دِرْهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:
«يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مراد، ثم من قرن، كان به بَرَص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بَر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟
قال: أكون في غَبْراء الناس (أي عامتهم وأخلاطهم) أَحَبُّ إِلَيَّ.
قال أسير(راوي الحديث): فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشراف أهل الكوفة ، فلقيه عمر، فسأله عن أويس، قال: تركته رث البيت، قليل المتاع، قال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ... ثم ذكر الحديث...
فلما رجع الرجل الى قومه أتى أويسا فقال: استغفر لي، قال له أويس: أنت أحدث عهدا بسَفَرٍ صالح، فاستغفر لي، قال الرجل: استغفر لي، قال اويس: أنت أحدث عهدا بسَفَرٍ صالح، فاستغفر لي، قال أويس: لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له أويس، ففطن له الناس، فانطلق على وجهه، قال أسير (راوي الحديث): وكسوته بردة، فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لأويس هذه البردة. انتهى من صحيح مسلم
ومعنى (أمداد أهل اليمن) الواردة في أول الحديث: جمع مدد، وهم الأعوان الذين كانوا يجيئون لنصر الإسلام، و يمدون جيوشه في الغزو.
من فوائد الحديث:
- حديث أويس هذا معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنَّه أخبر عنه باسمه، ونسبه، وصفته، وعلامته، وأنه يجتمع بعمر رضي الله عنه، وذلك كله من باب الإخبار بالغيب الواقع على نحو ما أخبر به.
- فِعْل عمر رضي الله عنه يدل على حرصه على تبليغ الشريعة، ونشر السنة، والإقرار بالفضل لأهله، والثناء على من لا يخشى عليه عُجْب بذلك ليقينه وكمال إيمانه.
- أن أويسًا-على كرم حاله وعلو منزلته- أصابه مرضُ البَرَص، واجتهد في الدعاء بالشفاء فشفاه الله إلا موضع درهم منه، أراد الله أن يبقى هذا الموضع ليتذكر أويس ما كان به من هذا الداء، فيبعثه ذلك على الزيادة في الشكر؛ إذ مِن عادة الآدمي- بحكم الإلف والعادة- نسيان النعم إلا مَن وفَّقه الله.
- فيه جواز طلب الدعاء والاستغفار من أهل الصلاح والتقوى من الأحياء وإن كان الطالب أفضل منهم.
- لا يفهم من هذا أفضلية أويس على عمر، ولا أن عمر غير مغفور له، للإجماع على أن عمر أفضل منه لأنه تابعي، والصحابي أفضل منه، إنما مضمون ذلك: الإخبار بأن أويساً ممن يستجاب له الدعاء، وإرشاد عمر إلى الازدياد من الخير واغتنام دعاء من ترجى إجابته، وهذا نحو مما أمرنا النبي به من الدعاء له، والصلاة عليه وسؤال الوسيلة له وإن كان النبي أفضل ولد آدم .
- فضل بر الوالدين، وعظيم أجره، وأن الإنسان يجني ثمرته وبركته في حياته وبعد مماته.
- لو أقسم أويس على الله لأبره، إشارة إلى إجابة دعوته وعظيم مكانته عند ربه، وأنه لا يخيب أمله فيه، ولا يكذب ظنه به، ومع كل هذا فإن أويسًا لم يتكبَّر، ولم يُعجب بنفسه، ولم يمش في الناس معلنا عن ذلك، بل ازداد تواضعًا وخشيةً من الله.
- وردت في القصة عبارات، مثل ( وفيهم رجل يسخر بأويس) أي يحتقره ويستهزئ به، ومثل (أكون في غبراء الناس) أي عامتهم وأخلاطهم الذين لا يؤبه لهم، وقوله في آخر القصة: (ففطن له الناس، فانطلق على وجهه). كل هذه العبارات تدل على أن أويسا كان يخفي حاله ويكتم السر الذي بينه وبين الله عزوجل ولا يظهر منه شئ ، لئلا يشتهر مخافةَ الفِتنة، ولئلا يكون في ذلك إشغالاً له عن هدفه الأساسي الذي هو إفراد الحق بالقصد، والانقطاع إليه من الخلق، وهذه طريق العارفين وخواص الأولياء رضي الله عنهم.
- قول أويس للرجل الكوفي: (أنت أحدث عهدًا بسفر صالح، فاستغفر لي): فيه أشار إلى فضل السفر الصالح ، وأن القادم منه أرجى لإجابة دعائه، فلذا سأل منه أويس الدعاء.
قصة أويس بين القبول والرد:
لم يتلق أهل العلم مرويات قصة أويس بالقبول ، بل قبلها جمهور العلماء، في حين وجّه بعضهم إليها سهام النقد في وقت مبكر من عمر التأليف والنقد، وحجتهم في ذلك:
- انفراد مسلم برواية الحديث عن باقي أصحاب الكتب الستة.
- إنكار إمامين جليلين- مالك وشعبة ابن الحجاج- للقصة ، وهما من هما في علل الحديث والجرح والتعديل.
- تدور المرويات كلها على أسير بن جابر ، وأسير هذا مختلف في اسمه ومختلف في نسبه، ونقل الحافظ ابن حجر قول بن حزم في أسير هذا: ليس بالقوي. ومثل هذا لا يتحمل تفرده بمثل هذه القصة.
- في متن القصة أمور غريبة لم تعهد في الصدر الأول، منها على سبيل المثال: طلب الدعاء، اذ لم يرد في السنة الصحيحة أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أن يطلب أحد من أحد أن يدعو له، فهذا ليس من هديه ولا من هدي خلفائه الراشدين.
وفيما يلي طرف من أقوالهم:
- أبو بكر بالبزار (المتوفى: 292هـ): لا نعلم أسند أسير بن جابر، عن عمر إلا هذا الحديث، قال أبو بكر: حديث أُسَيْرٍ مُنْكَرٌ ، وإن كان إسناده ظَاهِرُهُ حَسَنٌ فله آفَةٌ.
- العقيلي (المتوفى: 322هـ): قال البخاري: أويس القرني في إسناده نظر... قال شعبة: سألت عمرو بن مرة عن أويس القرني فلم يعرفه، وكان أويس من عشيرته.
- ابن حبان البُستي (المتوفى: 354هـ): يحكون في موته قصصا تشبه المعجزات التي رويت عنه، وقد كان بعض أصحابنا ينكر كونه في الدنيا، ... قال شعبة: سألت عمرو بن مرة وأبا إسحاق السبيعي عن أويس القرني فلم يعرفاه.
- ابن عدي (المتوفى: 365هـ): مالك ينكره، يقول: لم يكن.
- الحافظ علاء الدين مُغْلطاي (المتوفى: 762هـ) : كان أبو سعيد الراني يحلف بالله ما كان أويس قط.
ونقل العلامة المناوي - في اكثر من موضع- بعض كلام الائمة السابقين، كما نقل قول ابن الجوزي: وقصة اجتماع أويس بعمر باطلة.
من اقوال أويس :
رويت عنه أقوال فيها كثير من الحكمة والموعظة الحسنة، منها:
- كان أويس إذا أمسى، يقول: هذه ليلة الركوع، فيركع حتى يصبح. وكان إذا أمسى يقول: هذه ليلة السجود، فيسجد حتى يصبح.
قلت : إن كان يقصد قيام الليلةِ من أولها إلى آخرها، فقد ذهب كثير من أهل العلم إلى كراهة ذلك، وعن جماعة من السلف أنه لا بأس به، وهو رواية عن مالك إذا لم ينم عن الصبح.
- كان إذا أمسى، تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والشراب ، ثم قال: اللهم من مات جوعا، فلا تؤاخذني به، ومن مات عريا، فلا تؤاخذني به.
ورواه الحاكم بلفظ: اللهم إني أعتذر إليك من كل كبد جائعة، وجسد عار، وليس لي إلا ما على ظَهْري وفي بطني.
- كن في أمر الله كأنك قتلت الناس كلهم، يشير الى شدة الخوف من الله ودوام مراقبته .
- قال هرم بن حيان لأويس القرني: أوصني قال: توسد الموت إذا نمت، واجعله نصب عينيك، وإذا قمت فادع الله أن يصلح لك قلبك ونيتك، فلن تعالج شيئاً أشد عليك منهما.
اعداد الصفحة للطباعة
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
مقالاتالصفحة الرئيسية